تشهد الساحة السورية خلال الأشهر الأخيرة تطورات متسارعة قد تُعيد رسم خريطة التحالفات والخصومات، لا سيما في ما يتعلق بعلاقة تركيا مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي طالما صنّفتها أنقرة ضمن خانة "التهديدات الأمنية المباشرة" لأمنها القومي. وبينما لا توجد إشارات واضحة لتطبيع مباشر، فإن التحركات السياسية والاتفاقات الجانبية تثير تساؤلات جادة: هل تشهد المرحلة المقبلة تحولًا نوعيًا في هذه العلاقة الحساسة؟ وهل تسير الأمور نحو "تطبيع غير معلن" برعاية دمشق؟
أولًا: من هي قسد ولماذا تعتبرها تركيا تهديدًا؟
تشكّلت قوات سوريا الديمقراطية عام 2015، وتضم خليطًا من المكونات العرقية في شمال وشرق سوريا، لكنها تهيمن عليها بشكل رئيسي وحدات حماية الشعب الكردية (YPG)، والتي ترى فيها تركيا امتدادًا مباشرًا لحزب العمال الكردستاني (PKK) المصنف إرهابيًا من قبل أنقرة والعديد من الدول الغربية.
ورغم أن قسد كانت شريكًا أساسيًا للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في الحرب ضد تنظيم داعش، فإن تركيا تنظر بعين الشك والقلق إلى أي تنامي في قوتها أو نفوذها قرب حدودها الجنوبية، وسبق أن شنت عمليات عسكرية متعددة داخل الأراضي السورية للحد من نفوذها، مثل "درع الفرات" و"نبع السلام".
ثانيًا: الاتفاق المفاجئ بين قسد والحكومة السورية الجديدة
في مارس 2025، تم الإعلان عن اتفاق مفصلي بين قوات سوريا الديمقراطية والحكومة السورية الجديدة، يقضي بدمج المؤسسات المدنية والعسكرية التابعة لقسد ضمن هيكل الدولة السورية. يشمل الاتفاق كذلك إدارة مشتركة للمعابر الحدودية، والمطارات، وحقول النفط والغاز، في خطوة غير مسبوقة لإعادة توحيد السيادة على كامل الأراضي السورية.
هذا الاتفاق يُعدّ مكسبًا سياسيًا كبيرًا لدمشق التي تحاول استعادة سيطرتها الرمزية والعملية على شرق البلاد، كما أنه بمثابة رسالة لتركيا بأن مستقبل المنطقة لن يُرسم فقط من خلال التفاهمات الثنائية مع روسيا أو الولايات المتحدة، بل عبر حوار مباشر بين الأطراف السورية نفسها.
ثالثًا: زيارة تركية مفاجئة إلى دمشق
ردّ تركيا على هذا التطور لم يتأخر كثيرًا. ففي خطوة لافتة، قام وفد رفيع المستوى من الحكومة التركية، يضم وزير الخارجية ووزير الدفاع ورئيس جهاز الاستخبارات، بزيارة غير معلنة إلى العاصمة السورية دمشق. الهدف من الزيارة كان واضحًا: فهم تفاصيل الاتفاق، والتأكد من أن قسد لن تستمر كقوة منفصلة قد تشكل تهديدًا لأمن تركيا، حتى وإن تمت إعادة صياغتها تحت مظلة الدولة السورية.
القيادة التركية لم تُخفِ قلقها، لكنها في الوقت ذاته أعربت عن "تفاؤل حذر" تجاه الاتفاق، وذكرت أنها تراقب بدقة تطورات الوضع الميداني، على أمل أن يؤدي الاتفاق إلى إنهاء حالة "الكيان الكردي المستقل" في شرق سوريا.
رابعًا: هل تمهّد دمشق لتفاهم غير مباشر بين تركيا وقسد؟
من الواضح أن دمشق باتت تلعب دور الوسيط الفعلي بين قسد وأنقرة، في ظل رفض الطرفين التواصل المباشر. هذا الدور قد يسمح للطرفين – كلٌ من موقعه – بتمرير مصالحه دون الحاجة للاعتراف السياسي أو الدخول في مفاوضات محرجة داخليًا.
بالنسبة لتركيا، فإن انخراط قسد في مؤسسات الدولة السورية يمنحها "غطاء شرعيًا" لتجنب التعامل معها مباشرة، بينما بالنسبة لقسد، فإن ضمان استمرار وجودها السياسي والعسكري ضمن الدولة، يوفّر لها حماية من هجمات محتملة، سواء من تركيا أو من النظام ذاته.
خامسًا: ما الذي قد يمنع هذا "التطبيع غير المعلن"؟
ورغم كل هذه التحركات، لا يزال هناك العديد من العوائق التي قد تُفشل هذا السيناريو، أبرزها:
- انعدام الثقة العميق بين تركيا وقسد، تاريخيًا وأمنيًا.
- الضغوط الداخلية التركية، خاصة من المعارضة، الرافضة لأي تقارب مع جهات متهمة بدعم الإرهاب.
- الموقف الأمريكي الغامض، خصوصًا أن قسد ما زالت تحت حماية جزئية من قوات التحالف.
- خوف قسد من خسارة مكاسبها الذاتية، إذا ما تم تذويبها بالكامل داخل النظام السوري.
سادسًا: إلى أين تتجه الأمور؟
التقديرات تشير إلى أن تركيا لن تُطبع مع قسد مباشرة في المدى القريب، لكنها قد تقبل بـ"أمر واقع جديد" تتولى فيه دمشق إدارة شرق سوريا بما فيه من عناصر ومؤسسات، طالما أن هذه الإدارة تضمن وقف أي نشاطات معادية لتركيا.
بمعنى آخر، أنقرة لا تبحث اليوم عن تحالف مع قسد، بل عن آلية تضمن لها الأمن والاستقرار على حدودها دون مواجهة عسكرية أو تكرار سيناريوهات الفوضى.
خاتمة
التحركات الأخيرة لا تعني تطبيعًا رسميًا بين تركيا وقسد، لكنها تشير بوضوح إلى دخول مرحلة جديدة من التعقيد السياسي في الملف السوري، قد تفضي إلى تفاهمات غير معلنة تُديرها أطراف ثالثة مثل دمشق. يبقى السؤال المطروح: هل تنجح هذه الصيغة الهشة في ضمان مصالح الجميع؟ أم أن المسار لا يزال مليئًا بالعوائق والعواصف المحتملة؟
.